منذ شهور انطلقت على الفايسبوك نداءات تدعو للتظاهر في المدن والقرى المغربية، بل وفي العواصم الأجنبية من أجل المطالبة بالتغيير الجذري للنظام السياسي في المغرب. فبعدما كانت حركة 20 فبراير تطالب بالملكية البرلمانية كحل للأزمة التي تمر فيها البلاد وفاء لشعار اليسار القديم تحت حكم الراحل الحسن الثاني، تحول المطلب اليوم، في ظل حكم ابنه محمد السادس، إلى "إسقاط النظام" في تحول نوعي وغير مسبوق. وقد شق هذا الشعار طريقه إلى الشارع المغربي حيث دُوِّن على جدران بعض الأحياء الشعبية، كما أورد أكثر من مصدر إعلامي. كيف يمكن قراءة هذا التحول في خطاب الشارع المغربي؟ وما هي الأسباب التي أدت إليه؟ وما هو أثر هذا النداء الجديد على مستقبل المغرب السياسي؟
من يعرف الساحة السياسية في المغرب يدرك أنها تنقسم إلى ثلاث فئات: فئة مستفردة بالحكم والقرار وتتمثل في المؤسسة الملكية. وفئة تؤمن بالعمل داخل مؤسسات الدولة مقتنعة بالهامش المُوَفَّرُ لها عبر الآليات التنفيذية التي تمتلكها الحكومة، وأخص بالذكر جميع الأحزاب السياسية التي تشارك أو سبق لها أن شاركت في العمل الحكومي. وفئة ثالثة تطالب بتغيير عميق من أجل إرساء القواعد الحقيقية لممارسة الحكم بعيداً عن وصاية المؤسسة الملكية. ترى هذه الفئة أن التغيير الحقيقي لا يأتي إلا بإقرار دستور ديمقراطي بعيد عن منطق الدستور الممنوح في صورته الحالية، وإرفاق المسؤولية بالمحاسبة الفعلية.
وقد ضمت حركة 20 فبراير في صفوفها كل هذه الفئات حيث أدت التجاذبات بين مختلف هذه الأطراف إلى إنهاك الحركة لصالح الفئة القوية التي يمثلها تحالف الملكية والأحزاب السياسية. فمع فشل الحراك الفبرايري، اضطر الطرف الثالث للانسحاب ومراجعة حساباته ليدرك سوء تقديره في التحالف مع الأحزاب.
وطوال مدة أُفول حركة 20 فبراير، ازدادت الأوضاع تأزماً في المغرب، رغم وصول حزب العدالة والتنمية إلى تدبير شؤون الدولة وتراجعت المؤشرات التنموية والاقتصادية والاجتماعية، حيث تمت الزيادة في الأسعار وتفشت البطالة والفقر وارتفعت وتيرة الإحتجاجات في مختلف ربوع البلاد، والتي تُواجَهُ بقمع شديد في غياب أي حلول إجرائية عملية لتفادي تفاقم الأزمة. وقد وصل الحد بالفريق الحكومي الحالي إلى نوع من الشلل المذهل في إتخاذ القرارات الجريئة للقطع مع الفساد والاستبداد، بل تمكن "العفاريت و"التماسيح" من لي أيدي الحكومة، لتمرير قرارات تكرس استمرارية حالة الاختناق الاقتصادي والاجتماعي، التي أدت إلى إفلاس خزينة الدولة على حساب توزيع عادل لمقدرات الأمة بين أفرادها.
كل هذه الأسباب ساعدت في المغرب، على تشكيل كتلة إحتجاجية شعبية موضوعية، وعلى إدراك تام بفشل تجارب التغيير السابقة، والتي تميزت بالخداع والنضال المزيف والإلتفاف على مطالب المغاربة، المتعلقة ببناء دولة مؤسسات حقيقية تكفل الكرامة والعدالة الاجتماعية المفقودتين بالنظر إلى خلاصات الدراسات والتحاليل ذات الصلة. و يأتي نداء 13 يناير في هذا السياق، حيث يمكن اعتباره صرخة شعب ظل منذ عقود يعاني من مختلف أصناف القمع والتهميش وضحية مساومات و متاجرات سياسية. وهو ما يمكن استخلاصه من خلال الرسائل الدعائية لهذا النداء عبر مختلف المواقع الاجتماعية.
وقد لقي هذا النداء مقاومات شديدة. بدءاً من أنصار المؤسسة الملكية ووصولاً إلى نشطاء سابقين في حركة 20 فبراير. وبالمقابل حظي باستجابة منضوين تحت تنظيمات معينة. كحركة الجمهوريين المغاربة ومستقلون نشطاء سابقون في الحراك الفبرايري ونقابات وبعض التجمعات اليسارية الراديكالية. فهل سيؤرخ هذا النداء لمرحلة سياسية جديدة في المغرب، يتم من خلالها التطبيع، من جهة النظام السياسي، مع إمكانية معارضة شكل هذا النظام نفسه؟ بعبارة أخرى، هل سيستوعب النظام السياسي هذا الطرح دون اللجوء إلى أساليب القمع المعهودة، لتجنيب البلاد الدخول في فوضى عارمة لا تعلم عواقبها؟ أم أن قمع هذا النداء سيكسبه شرعية إضافية لتلتحق به الأصوات الصامتة في أفق ثورة على شكل الثورة التونسية؟
وحده المستقبل جدير بالإجابة على هذه التساؤلات لكن يمكن القول إن هذا النقاش السياسي الجديد استطاع أن يفرز واقعاً سياسياً جديداً بقطبين متنافسين، عوضاً عن الأقطاب الثلاثة المذكورة آنفا، وذلك خارج منطق الدستور الممنوح والقوانين المنظمة للعمل السياسي. قطب ملكي يجمع كل الفعاليات السياسية المنضوية تحت شرعيته والضامنة لاستمراريته. وقطب ثان معارض، لم يعد يعتبرالملكية حكماً فوقياً، بل طرفاً مباشراً في الحكم يستحق المساءلة والمحاسبة، بالنظر إلى حجم تدخله وتحكمه في الشأن السياسي بل وحتى الاقتصادي. لكن هذا التقاطب لم يأت من فراغ، وإنما جاء كنتيجة لتراكمات تاريخية جعلته ينتقل من جانب التدافع الخفي بين النخب السياسية إلى إدراك شعبي جماهري، تجلت إحدى تطبيقاته في نداء 13 يناير. فهل بفعل جماهرية هذا المطلب سيستطيع هذا التقاطب الجديد فرز واقع سياسي يتلائم مع الوعي الجماعي الحاصل اليوم؟ وهل ستستطيع المعارضة أن تضمن الحفاظ على مقومات الدولة دون الوقوع في تفتيت كيانها وخدمة قضايا الأمة المغربية في إمتداداتها الإسلامية والعربية والإفريقية حالة تفوقها؟ وهل ستساعد الظروف الإقليمية والدولية على قلب موازين القوى في المغرب؟
من المؤكد أن المرحلة لصالح الشعوب حيث انتقل الخوف من معترك إلى آخر. ولم تعد رغبة التغيير حبيسة النخب الفكرية المدركة لمزايا الحرية والعدل في تنظيم المجتمعات، بل صار مطمحاً لجميع من ظلوا لعقود خارج السياسات الحكومية بفعل الاضطرابات التي خلفها الاستبداد ومنطق التحكم ومصادرة حق الجماهير في إختيار الحكام ومحاسبتهم.